الأحد، 25 سبتمبر 2011

محطات في الجحيم (2)


عدت ُ إلى نفسي وما أزال مهزوزة الأركان ، مرتعدة الفرائص وثقل يغلف روحي فيلفها لفا .... يحاصرني ضجيج أنفاسي عالية لاهثة ، وصوت دماءي هادرة مندفعة تضرب عروقا شارفت على الانفجار و قلب يدق كأعنف طبل افريقي وجد منذ الأزل، زحام من المشاعر المتناقضة يتدافع ، فيض من الأفكار والتساؤلات المتلاطمة تجرفني فلا استطيع الفكاك .... من هذه السيدة ؟؟؟! ، كيف تستطيع أن تتعاملَ مع أحزانها الخاصة بكل هذا الحياد ؟؟! أن تقلًب صفحات عمرها بكل هذا الاتزان ؟؟ ،  فيما أنا لم استطع التقاط أنفاسي منذ وصلت ، وهي تتقاذفني ككرة "يويو" لعينة فتطلقني الى مستنقع احزانها تغمسني وأرتد ... لتعود وترسلني في كرَة جديد ة وبسرعة خاطفة!!

 في الحياة .... نعم ... قد تتقاطع حياتنا وآخر نمتطي موجته في بحر الحزن المنسي ، نعتلي لججه ونعانق انكساراته  ... نعلو ونهبط ... فنتذوق وجعه ونتسربل بأحزانه .  ولكن الحزن – كما أراه – ملكية خاصة لا تملك أن تقتحمها دون إذن من مالكها ... قصرعظيم ضبابي مسحور... يخفيه صاحبه بتعويذة الأيام ... وقد تُكسر التعويذة ... في وقت ما .... من شخصٍ ما ... لسببٍ ما ... فيتجلى القصر المسحور وبوابته المغلقة ...  ولكن الشيء المؤكد أنك يجب أن تطرق بابه ويأذن لك سكانه لتملك مفتاح الولوج وأنا ما فككتُ طلسما ولا طرقتُ بابا ... أو... لعلَي فعلت ؟؟؟؟!!!.

 آآآآآآآآه كم أنا مرهقة ، مضطربة ، ومشوشة .... كم أتوق لاتحرر من خيوط العنكبوت التي تُغزل حولي لتخلق صورة ... والصورة اللعينة لمَا تكتمل.  تائهة في دهاليز الأسئلة  المبهمة ..... معلقة في الفراغ ... فرت زفرة مرتعشة من شفاهي ... متقطعة مبتورة... خاطبت نفسي بحزم : أنا أحتاج بعض الوقت لإلتقاط أنفاسي. قاطعت ُ ذراعيَ حول صدري أحتضنني ثم أسندتُ رأسي برفق على كتف المقعد الخشبي فيما أسبلت عيوني وشعور موحش بالعزلة والإغتراب ينهشني.

 آآآآه ، كم أتوق لبعض السلام ... استجديه....  أسعى وأهرول مدى زمني كله وراءه.... أبحثُ عنك أيهذا الترياق العجيب.

غبت ُعما حولي لثوانٍ معدودة وهدهدتني ما يشبه سِنةٌ من النوم ... هدأت خلالها العاصفة الهوجاء في رأسي وانتهت لتخلِف وراءها ضحضاحا صغيرا، رقراقا يعكس في صفاءه زرقة السماء المنتعشة وطيف غيمة قطنية بيضاء .عبق الهواء النظيف المغسول يتسرب ويدغدغ أنفي ...تتشربه مساماتي... وسكووووون .... لا شيء أكثر.... ليتمجد الإله على نعمة التبلد !!

لا أدري كم من الوقت انقضى قبل أن أفيق على شعاع شمس حنون يربت على خدي وصوت رفرفة رقيق يغازل مسمعي ... شققتُ عيني الكسلى بصعوبة لتلتقط أمامي صورة قبَرة ترفرف في الهواء وتحط على فخذي ... تتنقل بخفة الى ركبتي وتدير رأسها الصغير لتمسد ريش عنقها بمنقارها بخفة وجذل . اهتز وجداني وطربتُ لمرأى الطائر الصغير ... راودته بحنين ... مددتُ يدي نحوه بلطف .. رفرفت القبرة في قبول واضح لدعوتي ... انتقلت لتهبط على يدي فيما ارتفعت يدي بمواجهة عنقي لأتأمل هذا المخلوق الجميل ... بادلتني القبرة الإعجاب بنظرة مودة وألفة وكأنها تناجيني ... همستُ لها : ما الذي أتى بك لهذه القفار يا صغيرة ؟؟

 فيما أداعب المخلوق الجميل وأحاول تناسي الوضع الملتبس الذي أعايش ... وقبل أن أتكيف على المكان – الحكاية ، اجتاحتنا ريح عاصفة شديدة... هبت فجأة من اللامكان ...... تغير ملامح وجهي وتشكله كما ترغب ... بجهد كبير تمكنت من دس القبرة عبرعنق ثوبي لأحميها في صدري وتشبثتُ بالمقعد الخشبي لأمنع الريح من اقتلاعي ... دووووون جدوى ! . حملتني الريح بخفة كورقة شجر خريفية ... تلاعبها  -  انقضى موسم السكون بسرعة !! - سلمتُ جسدي تماما لهذه الريح الدافئة تحملني في رحلة المجهول ... استسلام ما بعده استسلام ... تمتمت لنفسي : -ما تقذفه السماء ستتلقاه الأرض !!-  لم يكن ليَ هم وأنا أسبح في التيار الجارف الا الحفاظ على الطائر الصغير الملتصق بقلبي ... وليكن مايكون.

حملتني رحلة صاخبة من المسارات اللولبية المتلاحقة المتسارعة متتابعة الانخفاض والارتفاع ... دوامة عنيفة ... تمتص الكون وتلفظه في لحظات ...في خضم هذا الجنون المقيم ... ابتسمت في سري ... تذكرت نكتة الصرصور الذي قذفه حظه العاثر في خلاط كهربائي .. أنا ذلك الصرصور!!

 ..... ما عاد يهمني ... ساستمتع باللحظة وأمتطي الريح حتى تقذفني من على ظهرها كمهرة شموس !.... ايييييييييييييهاااااااااا.

بدأت فورة الرياح بالهدوء تدريجيا ... فيما انخفض الأرتفاع شيئا فشيئا بلطف وارتخت قبضة الرياح عن جسدي ... بدأت أرى معالم مدينة ؟ ... مآذن جميلة ... وبنايات أثرية ذات معمار اسلامي قديم بالغ الروعة ... يقوم بجانبها عمارات ذات طوابق متعددة تنسب الى المعمار الحديث ... ما زلت أقترب من الأرض وأنا مفتونة بعبق التاريخ... هذه "الحارة" أرض حقبات تاريخية متعددة تطل براسها لتوميء لك من جدران البنايات تحدثك بما مر عليها ... يزداد الانخفاض فتتضح الشوارع والأزقة ... وأصوات الحارة ترتفع بناسها ...  كل مشغول بشأنه ... من يبيع ومن يشتري ... كل الأعمار .. والكثير من الأطفال . أخيرا ، انفرجت كف الريح بحنو بالغ ... وفردت لي الأرض كقطعة مخمل تحت أقدامي ... لأقف بشيء من الترنح ونشوة الريح تزغرد في دمي .

 في أول فعل إرادي أقوم به منذ رحلة الطيران الجبري التي اختبرت ، تحسستُ نبضات قلبي ابحث بين دقاتها عن القبرة الصغيرة ، لكنها افلتت مني ورفرفت أمام وجهي لتستقر على الأرض طفلة صغيرة ... هي ذات الطفلة – السيدة . فردت الطفلة قامتها قبالتي ونادتني بعيون تتكلم وتبوح ... مدت يدها برفق لتمسك يدي وتقودني بحركة عفوية... وأنا ... تتملكني مشاعر التهور واللا جدوى ...  تبعتها وبكل ود.

هناك تعليق واحد:

كلمة جرافتي يقول...

"الحزن ملكية خاصة" هزتني هذه الجملة بقوة والخوف أن يتحول الحزن إلى حالة تريدها النفس وتستمتع بها وتتعايش معها..ذلك هو الخوف ..وأتمنى أن تحتفظي بطيرك الذي يسعدك ويجلعك ترين من الأشياء أجملها.