الاثنين، 14 نوفمبر 2011

محطات في الجحيم


من الجحيم بدأنا… والى الجحيم نعود، هذا ما يتبادر الى ذهني بعد كل"مشوار" يختطفني غصبا في زيارة حميمة الى الجحيم . لا أعلم كيف انتقل هناك وبأية وسيلة ، كل ما أعلمه اني أفتح عيوني فجأة وبدون سابق إنذار، لأجد نفسي في منطقةٍ ما من الجحيم المشتعل يأسا واحباطا وضنكا. تتراكم تلك الجبال الهائلة المقيتة من القنوط والعجز لتجثم على صدري ....يا لهذا الجحيم الإنساني كم هو متنوع ، لزج ، متعفن وحقير!.

كما في كل "مشوار" ، انتابني ما يشبه الإغماءة بما لا يتجاوز زمن طرفة عين استفقتُ منها على صوت شهيقي المدويً وأنا اتشبث برغبتي في الحياة واكافح للحصول على بعض الهواء لينعش رئتيَ المنسحقتين. أتوانى عن الحركة لحظياً ويبدأ جسدي المصعوق بالتماسك التدريجي ،تتوارى الزغللة في العيون ويتباطأ رأسي عن الدوران فيما ينساب بعض الهواء الى داخل جسدي المرتعش .. وأبتعد تدريجيا عن اختناقي المحقق .. المح طيفا يبرز من الضباب الرمادي المقيم.

أتحرك بخطىً وئيدة مترنحة ... اقترب شيئا فشيئا من الطيف ليتبدى سيدة تجلس على مقعد خشبي . يتهالك جسدي المرتعش على المقعد بجانبها بمجرد بلوغي له. هي سيدة في نهاية العقد الثالث من العمر، ذات نظرات ثاقبة وحضور آسر ينبأ عن شخصية متفردة.. هالة من الكبرياء تحيطها تجذبك اليها قسرا. تجلس مستقيمة الظهر مرفوعة الهامة بامتشاق ،وترتدي حلة رسمية في منتهى الأناقة تنبأ عن طبيعة متحفظة دقيقة وصارمة.
 تلاقت أعيننا في نظرة طويلة متأملة .. بادرتني بعدها بتنهيدة حارقة ، فيما حولت ناظريها عني وحدقت في الأفق بصوت عميق هاديء وكأنها تتابع حوارا بدأناه معا عبر ازمان فاتت ، قالت : توفي والدي وأنا بعد صغيرة ..كنت قد شارفت على سنتي العاشرة من عمريَ الغض ... لا أعرف هل كانت أمي بنفس هذه القسوة مسبقا ووجود والدي هو الذي كان يكبح ظهورقسوتها ،أم أن مصيبة وفاة والدي الذي تركها سيدة شابة وحيدة ومسؤولة عن أعالة خمسة من الأبناء وتربيتهم هو ما فجر فيها تلك القسوة العجيبة.
تابعت بصوت يغزوه الفخر والإعجاب ، كان والدي يعمل معدا للبرامج الإخبارية في الإذاعة في فترة الستينات، رجلا مثقفا يعتني بأناقته الى أبعد الحدود وذو شخصية اجتماعية وحضورملفت، فيما كانت أمي أرملة شابة ترملت عروسا دون أولاد ... ولسبب خفي ما فقد قرر المثقف المتألق الزواج من الأرملة الشابة ....
صمتت محدثتي وشردت نظرتها بعيدا، كأنها تسترجع مشهدا غائرا في الذاكرة ثم التفتت الي وتابعت بنبرة المحلِل:من الواضح - ان علاقتهما - كان هناك ما يشوبها فانا لا أتذكر طوال حياتي أنهما تلامسا بطريقة ودية ، أو تهامسا كزوجين ... كانت علاقتهما تبدو لي سعي مستمر من والدتي لإثبات جدارتها وتعويضه عن إختياره لها دونا عن باقي العذراوات لتحمل لقب زوجة المثقف (الجائزة) وتجاهل مستمر من قبله لمشاركتها حياته فهو قد خلع عليها" زوجة المحترم" فماذا تريد اكثر من ذلك؟؟!.

(ما أن اكمَلت السيدة كلمتها الأخيرة حتى لاح مشهدا بدا لي وكأنه خشبة مسرح متحركة ، لاح بعيدا وصار يتقدم رويدا رويدا حتى تميَز المشهد أمامي بكامله ، سيدة طاغية الأنوثة سادية الجمال تلبس ثياب نوم انيقة رفيعة الذوق وتعتلي سرير تقف عليه منهمكة رقصا ، تتمايل يمنة ويسرة ونظرها معلق بالشخص الجالس أمامها، تنظر اليه متبتلة، آملة ... بدت نظراتها متشبثة به وترجوه كمؤمن يتعلق بأستار الكعبة يناجي ربه.


هو رجل مهيب وسيم القسمات ، أنيق يجلس قبالتها على مكتب وثير ويقرأ وريقات يحملها بيده وينفث دخانه من "البايب" ، يلتف من وراء المكتب - يقف قبالتها- يلتقط سماعة الهاتف وتنطلق منه همهمات وضحكات متقطعة ، ينظر نحوها مباشرة. فتزيد هي وتيرة الرقص – الأمل ، علً وعسى، تعبُرها نظراته باردة محايدة وكأنها هواء شفاف ... يحدق فيها ولا يراها !


اكتشفت خلال تواجدي "مشاوير الجحيم" اللعينة هذه ، أنني امتلك شفافية خارقة فتستحيل روحي اسفنجة تمتص آلالام من التقيهم تتجسد في وجداني وتتقمصني فأتشكل مرآة حية تعكس كل مشاعر الالم والحسرة التي تعتري هذه الارواح المعذبة . تملكتني حسرة السيدة – الأنا في المشهد ،واستحالت طعنات حادة متلاحقة تمزق هذا الشقي القابع في صدري ... يجتاحني إعصار من الإنكسار والذل والعار ، تتمركز بؤرته في جسدي فيغوص في أعماق الأرض . جرحت حنجرتي آه وحشية الألم وتذوقت خيبة بطعم المر والحرقة تكوي كياني ، ما أقسى أن تبذل روحك وجسدك قربانا على أعتاب أحدهم ، فيبصقك !!)


انتشلني من دوامتي صوت محدثتي رخيما متوازنا تتابع حديثها وكأنها لم ترى معي ذلك المشهد الماثل في صحراء الروح ، مع تسلل صوتها وحروف كلماتها الى أذني .. كان المشهد يضمحل ويتبخر أمامي كخيوط دخان متصاعدة ... التفتُ اليها اسائلها بنظرة استهجان عاصف وأوشكت أن أنطق : ألم تشاهدي ما شاهدت ؟؟!!! ... ماتت الأحرف على لساني ... قسمات وجهها ونظرتها توحي أنها لم تشاهد تلك الأطياف ، وأن جرعة الألم الجحيمية كانت خالصة لي .. ولي فقط!!


تابعت محدثتي :
تفاجأت والدتي بصفعة قدرية تقتل أملها الأزلي بأن تتحق كشريكة حقيقية لحياته... اختطفه الموت وتركها وقد تعلق برقبتها خمسة من الأبناء كنت أنا أكبرهم ، وبحكم أصل والدتي الريفي فقد صار لزاما علينا تواجد جدتي والخالات والعمات المتشحات بالسواد في بيتنا وتدخلهم بحيثيات حياتنا كي لا تترك والدتي العزباء وحيدة ويحدث ما لا يحمد عقباه. فأسلمت هي زمامها لدورها المأمول والمرسوم من قبل المجتمع لتكون آمر السجن – الحامي لأولادها بالقسوة والجبروت ، فكما تعلمين يجب أن تُظهرالقوة والقسوة في تعاملها مع الجميع كي تقنعهم بجدارتها و أمانتها في تولي شؤون بيتها وحماية "اليتامى" من الإنحراف.
وعليه فقد كان أول قرار لمجلس إدارة العائلة المسكون بهاجس "الشرف" هو ختاني شخصيا ، فكانت همسات وكلمات تطرق مسمعي ولا أعيها ... الطهارة واجبة للبنت ، بنتك كبرت !.


بحركة لا ارداية هبطت كف يدي على فرجي تحميه ، ختاااان !!! ... يا إلهي !!! ، إلتوت قسمات وجهي امتعاضا وألما وهذا الخاطر يعبر ذهني ... الآن ساشعر بالالام بتر جزء حميم من جسدي ؟؟! ، ما الذي يحدث لي ؟؟؟! ، لماذا أمر بهذه المشاوير الجحيمية واختبر جميع أنواع عذابات البشرية ؟؟!!!!! ، تمنيتُ أن تصمت السيدة وتجنبني هذا الألم. صوَبتُ نظري لشفاه السيدة المتحركة .. مبتهلة .


شفاه السيدة تتحرك بالصمت ، لم أتمكن من سماع صوتها!! ... تبا !! ... أنا احلق في الهواء ، قوة هائلة تمتصني لاسبح في مسار لولبي لما يبدو انها دوامة دودية مضيئة، والسيدة قبالتي تبتعد صورتها شيئا فشيئا حتى تلاشت تماما ،غمرني هذا الضوء المبهر وأجبرني على الإغماض.


تقدمي ... لاتخافي ... هو جرح بسيط وسيبرأ سريعا !


فتحت عيوني مستطلعة ، أرقبُ مصدر الصوت لأرانيً أمامي طفلة.. فزعة ... مموجة الشعر ذكية النظرات، أحسست بيدين تقبض ذراعيً بشدة وتقودني ، تكاد قدميً لا تحملني فأخطو خطوة ولا اقوى على إتباعها بإخرى تتقاطع ساقيً بفعل الرعب المسيطر فاُشلَ .. تسندني اليدين لتنقل خطوتي قسرا. رفعتُ وجهي لأميز الأشخاص اللواتي يحملنني بهذا الشكل فميزت أمي وجدتي ...لا؟؟!! .. أمها وجدتها .. يا للجحيم أنا هي!


كل منهما تقبض على ذراع ... وأُساقُ كما البهيمة للذبح ... لابد أن ينثر على مذبح "الشرف" بعض دماء الأضحية .. لتكتمل الشعائر... وتنطلق زعقات النصر والفتوة ...عندما ينجح مجتمع "الشرف" مرة أخرى في سلب طفلة جديدة موطن شهوة قد يعرضها في يومٍ ما للتجاوب مع الغواية.

عبرن بي باب الغرفة ، تنتصب طاولة خشبية في وسطها، حاولت أن اشيح بنظري عن الطاولة- المذبح فلم ترى عيني الا سواد جلابيب الواقفات كسره لون ابيض يتقدم نحوي .. هذا اذن ساحر القرية – الطبيب يتقدم ليكمل مراسيم التضحية . تعاون ثلاثتهم على حملي وألقيتُ على ظهري على عجل كما تكبُ البهيمة ، سارعت نسوة السواد لتلتقط كل منهن ذراع او ساق ، ثُبتت أطرافي الأربعة وشُدت كل ساق الى أقصى جانبيَ الطاولة المتقابلين لتنفرج الفخذين وتبرز المنطقة المحرمة ... سارعت والدتي برفع ثوبي حتى أعلى وسطي ... تمددتُ هناك ... مكشوفة ... عارية .... مقيدة ....عاجزة ...ممتهنة ومنتهكة حتى النخاع !

تملكني جزع خرافي فيما لمع انعكاس المبضع في الشمس أمام عيني وهوت يد الساحر نحوي.... أحسستُ بطعنة تمزق فرجي ... انتفض جسدي كما تنتفض دجاجة ذُبحت للتوٌ... ألم دام للحظة واحدة فقط .. ثم اختفى ... وحلت السكينة البكماء مكان جزعي ورعبي الوحشيَ... ما عدت أشعر بأي ألم فيما انسابت دمائي الدافئة على باطن فخذي ... يا للعجب !! ... انفصال تام عن هذا الجسد المطعون ... سكن الجسد .... وطغى على احساس الألم مذاق مرار مكرر... علقم .. مذاق أميزه جيدا ... طعم القهر.

فيما استولت عليً حالة من الصدمة غادرتني الطفلة المنتهكة للحظات ، تقدمت نحوي ... حدَقت في عيوني بإصرار .... راقبتُ بعجب نيران شبت متوقدة في عيون الصغيرة ... تراجعتُ خطوات قليلة فيما استحال جسد الصغيرة شفافا وتحولت عروق اقدامها جذورا وامتدت فروعا مورقة في سائر الجسد ... خضراء يانعة ... رمقتني بنظرة مطمئنة ، ابتسمتْ ، فيما تحول وجه الصغيرة الى وجه السيدة أمامي وقالت : من عمق القهر ينبتُ التحدي.

جلجَلت ضحكة رنانة في سمعي ، نبهتني لأرى السيدة على المقعد بجواري تتابع حديثها بهزل وسخرية : الأغبياء !! ... يبدو أن الطبيب كان جراحا فاشلا، فلم يثمر ختاني هدفه من اقتلاع الشهوة ، فما زلتُ رغم ما حدث انثى بكامل شهوتها.

عدت ُ إلى نفسي وما أزال مهزوزة الأركان ، مرتعدة الفرائص وثقل يغلف روحي فيلفها لفا .... يحاصرني ضجيج أنفاسي عالية لاهثة ، وصوت دماءي هادرة مندفعة تضرب عروقا شارفت على الانفجار و قلب يدق كأعنف طبل افريقي وجد منذ الأزل، زحام من المشاعر المتناقضة يتدافع ، فيض من الأفكار والتساؤلات المتلاطمة تجرفني فلا استطيع الفكاك .... من هذه السيدة ؟؟؟! ، كيف تستطيع أن تتعاملَ مع أحزانها الخاصة بكل هذا الحياد ؟؟! أن تقلًب صفحات عمرها بكل هذا الاتزان ؟؟ ، فيما أنا لم استطع التقاط أنفاسي منذ وصلت ، وهي تتقاذفني ككرة "يويو" لعينة فتطلقني الى مستنقع احزانها تغمسني وأرتد ... لتعود وترسلني في كرَة جديد ة وبسرعة خاطفة!!

في الحياة .... نعم ... قد تتقاطع حياتنا وآخر نمتطي موجته في بحر الحزن المنسي ، نعتلي لججه ونعانق انكساراته ... نعلو ونهبط ... فنتذوق وجعه ونتسربل بأحزانه . ولكن الحزن – كما أراه – ملكية خاصة لا تملك أن تقتحمها دون إذن من مالكها ... قصرعظيم ضبابي مسحور... يخفيه صاحبه بتعويذة الأيام ... وقد تُكسر التعويذة ... في وقت ما .... من شخصٍ ما ... لسببٍ ما ... فيتجلى القصر المسحور وبوابته المغلقة ... ولكن الشيء المؤكد أنك يجب أن تطرق بابه ويأذن لك سكانه لتملك مفتاح الولوج وأنا ما فككتُ طلسما ولا طرقتُ بابا ... أو... لعلَي فعلت ؟؟؟؟!!!.

آآآآآآآآه كم أنا مرهقة ، مضطربة ، ومشوشة .... كم أتوق لاتحرر من خيوط العنكبوت التي تُغزل حولي لتخلق صورة ... والصورة اللعينة لمَا تكتمل. تائهة في دهاليز الأسئلة المبهمة ..... معلقة في الفراغ ... فرت زفرة مرتعشة من شفاهي ... متقطعة مبتورة... خاطبت نفسي بحزم : أنا أحتاج بعض الوقت لإلتقاط أنفاسي. قاطعت ُ ذراعيَ حول صدري أحتضنني ثم أسندتُ رأسي برفق على كتف المقعد الخشبي فيما أسبلت عيوني وشعور موحش بالعزلة والإغتراب ينهشني.

آآآآه ، كم أتوق لبعض السلام ... استجديه.... أسعى وأهرول مدى زمني كله وراءه.... أبحثُ عنك أيهذا الترياق العجيب.

غبت ُعما حولي لثوانٍ معدودة وهدهدتني ما يشبه سِنةٌ من النوم ... هدأت خلالها العاصفة الهوجاء في رأسي وانتهت لتخلِف وراءها ضحضاحا صغيرا، رقراقا يعكس في صفاءه زرقة السماء المنتعشة وطيف غيمة قطنية بيضاء .عبق الهواء النظيف المغسول يتسرب ويدغدغ أنفي ...تتشربه مساماتي... وسكووووون .... لا شيء أكثر.... ليتمجد الإله على نعمة التبلد !!

لا أدري كم من الوقت انقضى قبل أن أفيق على شعاع شمس حنون يربت على خدي وصوت رفرفة رقيق يغازل مسمعي ... شققتُ عيني الكسلى بصعوبة لتلتقط أمامي صورة قبَرة ترفرف في الهواء وتحط على فخذي ... تتنقل بخفة الى ركبتي وتدير رأسها الصغير لتمسد ريش عنقها بمنقارها بخفة وجذل . اهتز وجداني وطربتُ لمرأى الطائر الصغير ... راودته بحنين ... مددتُ يدي نحوه بلطف .. رفرفت القبرة في قبول واضح لدعوتي ... انتقلت لتهبط على يدي فيما ارتفعت يدي بمواجهة عنقي لأتأمل هذا المخلوق الجميل ... بادلتني القبرة الإعجاب بنظرة مودة وألفة وكأنها تناجيني ... همستُ لها : ما الذي أتى بك لهذه القفار يا صغيرة ؟؟

فيما أداعب المخلوق الجميل وأحاول تناسي الوضع الملتبس الذي أعايش ... وقبل أن أتكيف على المكان – الحكاية ، اجتاحتنا ريح عاصفة شديدة... هبت فجأة من اللامكان ...... تغير ملامح وجهي وتشكله كما ترغب ... بجهد كبير تمكنت من دس القبرة عبرعنق ثوبي لأحميها في صدري وتشبثتُ بالمقعد الخشبي لأمنع الريح من اقتلاعي ... دووووون جدوى ! . حملتني الريح بخفة كورقة شجر خريفية ... تلاعبها - انقضى موسم السكون بسرعة !! - سلمتُ جسدي تماما لهذه الريح الدافئة تحملني في رحلة المجهول ... استسلام ما بعده استسلام ... تمتمت لنفسي : -ما تقذفه السماء ستتلقاه الأرض !!- لم يكن ليَ هم وأنا أسبح في التيار الجارف الا الحفاظ على الطائر الصغير الملتصق بقلبي ... وليكن مايكون.





حملتني رحلة صاخبة من المسارات اللولبية المتلاحقة المتسارعة متتابعة الانخفاض والارتفاع ... دوامة عنيفة ... تمتص الكون وتلفظه في لحظات ...في خضم هذا الجنون المقيم ... ابتسمت في سري ... تذكرت نكتة الصرصور الذي قذفه حظه العاثر في خلاط كهربائي .. أنا ذلك الصرصور!!





..... ما عاد يهمني ... ساستمتع باللحظة وأمتطي الريح حتى تقذفني من على ظهرها كمهرة شموس !.... ايييييييييييييهاااااااااا.

بدأت فورة الرياح بالهدوء تدريجيا ... فيما انخفض الأرتفاع شيئا فشيئا بلطف وارتخت قبضة الرياح عن جسدي ... بدأت أرى معالم مدينة ؟ ... مآذن جميلة ... وبنايات أثرية ذات معمار اسلامي قديم بالغ الروعة ... يقوم بجانبها عمارات ذات طوابق متعددة تنسب الى المعمار الحديث ... ما زلت أقترب من الأرض وأنا مفتونة بعبق التاريخ... هذه "الحارة" أرض حقبات تاريخية متعددة تطل براسها لتوميء لك من جدران البنايات تحدثك بما مر عليها ... يزداد الانخفاض فتتضح الشوارع والأزقة ... وأصوات الحارة ترتفع بناسها ... كل مشغول بشأنه ... من يبيع ومن يشتري ... كل الأعمار .. والكثير من الأطفال . أخيرا ، انفرجت كف الريح بحنو بالغ ... وفردت لي الأرض كقطعة مخمل تحت أقدامي ... لأقف بشيء من الترنح ونشوة الريح تزغرد في دمي .

في أول فعل إرادي أقوم به منذ رحلة الطيران الجبري التي اختبرت ، تحسستُ نبضات قلبي ابحث بين دقاتها عن القبرة الصغيرة ، لكنها افلتت مني ورفرفت أمام وجهي لتستقر على الأرض طفلة صغيرة ... هي ذات الطفلة – السيدة . فردت الطفلة قامتها قبالتي ونادتني بعيون تتكلم وتبوح ... مدت يدها برفق لتمسك يدي وتقودني بحركة عفوية... وأنا ... تتملكني مشاعر التهور واللا جدوى ... تبعتها وبكل ود.




أسرعت طفلتي خطاها تتفلت مني وانطلقت كالسهم تعدو في خطوط متعرجة تتجاوز فيها المارة بحذق وثقة من يعلم وجهته ويستعجلها. حثثت الخطى لأتمكن من مجاراة الصغيرة وأتتبعها بنظري كي لا تضيع مني، فيما اخترقَت هي تجمعا من الأشخاص وذابت بينهم ....


هرولتُ وراءها متلفتة ابحث عنها فيما أفرق الأشخاص المتجمعين لأصل إلى قلب التجمع ... وفي وسط الحلقة كانت تقف هناك ... مطأطئة الرأس، منكمشة الجسد ،ممتقعة الوجه ، وسيدة ذات وجه كالح تنفث سمومها وتلقي كلماتها بصراخ مكتوم وجسد لا يتمالك نفسه من الانفعال والسخط مخاطبة الصغيرة : أيتها الشقية الفاجرة ... كيف تسمحين له بلمسك !!! ، هذا ما تفعله العاهرات ، تسير في الطريق تدعو المارة إليها بوقاحة نظراتها وميوعة حركتها !!!


وقفت صغيرتي .... وحيدة..... هشة، تلتهمها نظرات الفضوليين كفريسة أحيطت بالضباع ، يقتاتون ضعفها ويستمرئون إحراجها ، يتغامزون فيما بينهم فيما لمعت في أعينهم شهوة الصياد الذي لمح صيدا نادرا لتوَه. تمتمت الصغيرة بصوت مخنوق متوسل: أنا لم أفعل شيئا ... قلت لك هو من تبعني .. أرجوك يا أمي أليس بالإمكان متابعة حوارنا بالمنزل ؟ .. المارة تتخذنا فرجة.
صاحت السيدة: وتتجنبين الفضيحة الآن أيتها العاهرة ؟ ، لماذا لم تتجنبيها قبلا؟! ، وكيف تسمحين لهذا الوغد الصغير بلمسك ؟!!. وأضافت وكأنها تحدث نفسها: الجميع يعلم أن المرأة هي التي تسمح أو تمنع حصول هذه الأفعال الدنيئة معها .. ولا يمكن أن يتجرأ أحدهم ويلمسها إلا إن رأى منها ما يشجع ، وأتبعت جملتها بصفعة رنت على وجنة الصغيرة بقوة حركتها من مكانها، انخلع قلبي لمرأى الصغيرة تمتهن وتكسر أمام ناظري ... قفزتُ منتفضة لأصل الصغيرة في خطوة واحدة، أحتضنها وأحميها من هذا التشويه الحقير.... لأفاجأ بجسدي يطفو عبر جسد الصغيرة دون أن تشعر بلمساتي وأنا أحاول احتضانها، ما كنتُ سوى طيف يشهد ويراقب ليس إلا !!!...
تسمرتُ في مكاني يقتلني ضجيج الصمت الآثم ، طغى ضباب كثيف ملأ جنبات روحي ، لا أقسى من أن تلمس انكسار روح فتية وتعاين رؤيا العين تجبر ثقافة الخائف المنهزم تسحق كينونة إنسان يتكون لا يزال، ولا تملك ما تواجٍه به إلا سخطك الداخلي فتنغلق إرادتك بعجزك.. تباً لثقافة الانهزام، حين يتحول الحامي إلى جلاد، وحين يقدمك هذا الحامي الجبان كقربان على مذبح الأخلاق المصطنعة والشرف العاهر ... حين يفقد الصغير اقرب وأعظم حليف طبيعي له ... والديه !!
صرخت السيدة المنهزمة لطفلتي : اتبعيني أيتها الفاجرة ، وانطلقت مسرعة تطوي الممر الضيق فيما تجمع فحول الكون صفين على جانبي الممر ... تحركت طفلتي لتتبع السيدة المنهزمة فيما غافلها ذات الصبي الشره ليعتصر نهدها الغير مكتمل النمو . انفرجت شفاه الصغيرة في محاولة لإطلاق صرخة استياء خرساء ... نظر الصبي لصغيرتي نظرة تهديد ورفع سبابته وأغلق بها شفتيه فيما أشار بيده الأخرى إلى السيدة المنهزمة ... في إشارة تهديد واضحة: اصمتي وابتلعي ما جرى وإلا أخبرت السيدة المنهزمة !!

في مشهد يبدو كأنه اقتطع من مسرح البولشوي بدأت حلوتي مشوار الآلام والعذاب الصامت فيما انهمرت دموعها تتساقط في شقوق المربعات الحجرية التي تشكل الممر الضيق فتنبت مكان كل دمعة زهرة - زهرة النرجس على وجه الدقة – تمشي فتتخطفها أيدي فحول الممر ، كلٌ يتحسس ويعتصر ما تصل إليه يداه ، ثدي أو ردف ، فرج أو فخذ ، بنظرات وقحة واثقة بأن الصغيرة لن تنبس ببنت شفة... بدأت الصغيرة الغارقة بالدمع تتقافز يمينا ويسارا تتراجع خطوتين وتقفز ثلاث للأمام ..... يشرئب الجسد الغض فينثني مرة وينحني أخرى ... يلتف حول نفسه في دائرة مغلقة .. ويثب نحو الشمس ... فينجح في تجنب الأيدي الفاجرة في مرات ويخفق أخرى. بعد كل قفزة كانت تحط على الأرض أكبر بسنوات .. تحولت الصغيرة إلى مراهقة مضطربة ... ثم إلى امرأة شابة ... بعد كل قفزة وتحول كانت الشابة تتمكن من الرقصة وخطواتها ووثباتها أكثر ... رغم الحزن والغضب والانتهاك.. تألقت صغيرتي في رقصتها الكونية ... رقصة الخلاص.

وصلنا معاً - أنا وهي- نهاية الممر الضيق، المنتهي بباب لكوخ كالذي تراه مرسوما في قصص الأطفال بقرميده الأحمر وحجمه الصغير، وليس هناك وجود للسيدة المنهزمة ؟؟!!! ، وقفت الشابة على أطراف أصابعها واستدارت برشاقة ولطف حول نفسها لتكمل دورتها وتحني جذعها أمامي وتحني رأسها بإجلال فيما مدت ذراعها ليشير إلى الباب المغلق في دعوة راقصة للولوج، تقدمنا معا وبدون أي جهد اخترقت هالة أجسادنا الباب الموصد. تسمرتُ مكاني للحظات كي تتعود عيني ظلمة المكان ... لم أتمكن من تبين أية تفاصيل إلا بعد أن أنار ضوء خافت يتدلى من مركز الحجرة ... تبينت بصعوبة تشكيل دائرة مغلقة ... يتشكل محيطها من بشر .. أشخاص مختلفي الملامح والتكوين الجسدي ... رجال ونساء من مختلف الأعمار والألوان ... يلبس كل منهم جلبابا أسود اللون ويقفون متراصين متجاورين في صمت مطبق وكأنهم يمارسون طقسا تعبديا ما ؟؟!!!

تقدمت سيدة – هي ذات السيدة الطفلة- خطوة واحدة إلى داخل الدائرة وقالت بصوت واضح : أنا الزهراء ، تعرضتُ في حياتي للتحرش الجنسي والنفسي وظلم الأقربين ... الآن أشارككم انكساري وأتحرر ... فيما امتدت أناملها لعنق الجلباب لتفك أزراره وينهمر على جسدها ليستقر على ارض الحجرة وتقف هي عارية متجردة.
تقدم رجل من طرف الدائرة المقابل وقال بصوت واضح : أنا سلطان تعرضتُ للاغتصاب من والدة صديقي في مراهقتي وأخفيت ما حدث لعدم تقبل مجتمعي ما حدث بوصفه اغتصاب لإني ذكر.... الآن أشارككم انكساري وأتحرر .. نزع هو بدوره الجلباب ووقف عاريا.تتابع الأشخاص المتقدمون إلى داخل الدائرة ... اصطفوا عراة مجردون وتماسكت أيديهم وتداخلت أصواتهم والحكايات إلى أن انتهى آخر شخص في الحلقة المتكونة من آخر كلماته ... الآن أشارككم انكساري وأتحرر.

انشق سقف الحجرة ببرق ضوء غامر طاغ ، اجتاح الموجودين جميعا ... شلالات نور بهي شفاف متدفق ... رفع افراد الحلقة أيديهم المتشابكة عاليا لتصبح في امتداد عامودي لأجسادهم ورفع كل منهم وجهه في مواجهة النور فيما علت همهمهة جماعية ذات لحن ووقع خاص شكلت من هذه المقاطع الصوتية ما يشبه الترانيم دون لغة أو كلمات تنطق ... اصبحت الترانيم تعلو شيئا فشيئا ... فيما كان منسوب النور والضياء ينساب ويرتفع تحت أرجل الموجودين فيحملهم ليطفوا .. ويرتقوا معا إلى مصدر الضوء العلوي .. متشابكي الأيدي ... ويصدحون بالترانيم .


.


.


.


.


تك


تك


تك

انتبهت من غمرة الضوء لأجدني أجلس في غرفة نومي ... قبالة نافذتي الزجاجية ... وأولى قطرات المطر الخجلى لهذا الشتاء تطرق نافذتي ... تك ... تك ... تك تك تك ... تسارعت القطرات وبدأ المطر بالانهمار ...

هناك تعليق واحد:

Nema يقول...

جميلة قوية هشة غير قابلة للكسر متجردة مملوءة بالأحساس العميق
ذات غشاوة مليئة بالمشاهد الواضحة قاتمة بلونها الأبيض النقي مبهجة بلونها الأسود الحاد مليئة بالتناقضات المنسجمة ...هي انت