الاثنين، 24 سبتمبر 2012

اللقيا في زمن التيه (2)




هرولت.. ولا زال مشهد الدماء والاقتتال وذياك الفارس القاتل والمقتول تحاصر أفكاري ... يبدو أننا في معترك صراع البقاء المزعوم نقدم ارواحنا على عتبة الهزيمة - النصر .. فلا ينجو منا احد لا القاتل ولا المقتول .. ونختصر الحياة لتصبح فن انتظار الموت لا أكثر !!! ... شهوة الموت ترسم الدائرة المغلقة وتلد تتويج العبث سيدا وتسلسلنا بأغلاله ؟! ... ما لهذا وجدنا في هذا الكون الفسيح !! ما لهذا وجدنا !!

تابعت مسيري كالمحموم ... قلب ينفجر ...جسد مضطرب ... أفكار غائمة ... أحاسيس هادرة ... ألم .. حسرة ... ترقب للآتي .. تتساقط الأحداث المتتابعة في خلاط الاستيعاب فيعجز المنطق عن تبويبها ... لامنطق .. وأتوه!!

لا !! .... سأكون ملء الردى حيَة !!

تلقفني النسيم بعطف بالغ ..هَمَس ..  استنشقيني عميقا ... خالطيني دماءك ...  سأتخذ مساري في جسدك المضنى والتقط السموم .. الهموم ... الكدر ... انفثيني ... أعيدي الكرَة ... أعيديها مرارا ... حتى اهديك السلام ..
عاد الصخر مغرقا في السواد المهيب مغطى بالنبات الذي يهديه تمازج اللون الأخضر بجميع تدرجاته ... خضرة العشب .. خضرة الليمون .. خضرة التوهج !... في هذه البقاع اصبحت تخالط العشب أزهار وورود بهية الحسن ... ريَانة ... تنشر عبيرها الآسر .. فتغوي الروح لزيارة مواطن البهجة ... وشوشة تغازل سمعي ... قريبة ...  حميمة ... تبشر بالحياة ... ما أحلاه من صوت ... صوت تدفق الحياة ... خرير المياه ؟؟!! ... خطوات قليلة واذ بي أشرف على مصدر الصوت .. نبع رقيق يتجمع في بركة صغيرة ... مياه عذبة ؟؟!! ... وصعقني اني منذ صحوتي من اغمائتي ما عدت اشعر بالعطش الذي كان يفتك بي ؟؟ وقريبا من مكان صحوتي توجد مياه عذبة ... الكثير منها ؟؟!!
تبأً لي دائما ما انجح في لجم رعونة الفرح بقيد التساؤلات !! ... قفزت من فوري وقذفت جسدي  الى المياه الممتدة أمامي بغنج أنثى .. يلجها عشيقها النبع  يصب مياهه صبا الى رحمها .. فيسكبها ويريقها ... وبحكمة الأنثى تهديء روع النبع الملهوف لتستمد من دفقه حدودا جديدة تتسع فيها وتتمدد لتهب الحياة الى مساحة متجددة في كل دفعة وكل دفقة  .



لم تبخل سيدة المياه البلورية ... سقت جميع مسامي ... بهدوء ورويَة ... ودفء ... استلقيت عائمة على ظهري ... اعانق السماء ... اسمع تدرج المياه ... تحملني بكفها الغيم ... تمر على جسدي ... تغمرني بعشق ... أنا هنا ... أنا الآن ... مجردة مما سبق .. مجردة مما يأتي .. نقية .. ومبتهجة .


أزيز نحلة !!


مغمضة العينين رأيت طيفا يجتازني .. يحجب شعاعي لوهلة ويختفي ... وتوجس خفي يترسب في اعماقي ان هناك ما يحدث على ضفة البركة ... فتحت عينيَ بكسل وطوَفت رأسي في نصف دائرة استكشف احساسي ... كان الهدوء يكتنف المكان .. لا أثر لكائن ... تنفست الصعداء وخاطبت نفسي قائلة : ربما كان ارنب صغير أو ضفدع .. وفيما اتابع التفاتي ليستقيم رأسي ... رأيت طفو لما يشبه أمواج السراب تتشكل أمامي ... متداخلة مضطربة متعرجة ... ترسم من الصخر شكلا هلاميا لا يستقر ... حدقت جيدا لأتبين ما ترسم خطوط السراب لارها تتشكل شكلا انسانيا .. شخص ما يبدو وكأنما انشق من صخر الجبل الأسود! ..





 تسارع نبضي وأصابني ما يشبه الدوار ... رفة عين .. وعدت للتحديق...تبخر الشكل والسراب ولم أعد أرى أحدا .. فيما أراجع نفسي فيما رأيت من الوهم أو الحقيقة سبحت الى أطراف البركة لارتقي الى ضفتها .. فيما انفض بقايا المياه عن خصلات شعري .. جالت نظراتي في المكان ابحث عن تفسير ... واجتاح بدني قشعريرة فيما دوى صوت صرخة عظيمة  هزت اركاني واجتاحتني كأمواج زلال ... جفلت اقفز نحو  ازدحام الصوت الجائر .. لأرى هذا الكائن الوحشي يشرئب بعنقه الى السماء ويتم صرخته الرعد ... رجل يبدو وكأنه قطع من صخر هذا الجبل .. أسود البشرة منحوت قسمات الوجه ...
تحركت على مهل لأقف قبالة الرجل عن بعد بعض الشيء ... ثبت نظري اليه أرقبه..  بدا لي تمثال من الرخام الأسود المصقول .. ثابت .. لا يتحرك ... ربما كان تمثالا فعلا وتهيؤاتي هي من منحته الحياة ... وربما ما أراه هو وهم خلقته تجربتي العصيبة وانقطاعي عن البشر .. كانت نظرة الرجل التمثال ثابتة باتجاهي ... ولكنها تتجاوزني ... كأنه غارق فيما وراء الشكل ...




إما أن يكون من صَنع هذا التمثال متفرد الابداع ليمنح نظرته هذا الدفق من الحياة واما أن يكون شخصا حيا لا يقل عني حياة ... بفضول القطة وخطواتها اقتربت من الرجل التمثال .. درت حوله عدة مرات ... اقتربت اكثر ... ودققت النظر ... بملامح الوجه ... الجسد .. أثار جروح مندملة متفرقة ... في الصدر والبطن ... في الظهر والفخذين .. وجراح لا تزال خضراء في الركبتين والساقين ...
شهقت في وجه الرجل وصرخت بصوت أرخميدس عندما زعق "يوريكا" ... لا يمكن ان تكون تمثالا !!! التماثيل لا تجرح !!! ، واتبعت بابتسامة ساخرة عريضة تعبر عن اعتزازي "بذكائي المنقطع النظير" ..
لم يشاركني الرجل الابتسام ... بل على العكس بدا لي وكأنه لم يسمع أيا من كلماتي .. وتابع ينظر الي بذات النظرة المستغرقة التي تقول شيئا ما لا أفهمه ..تجاهلت نظرات الرجل الغامض .. أبهرني شعوري بالمودة والقرب من رجل غريب ألمحه لأول مرة في حياتي في ظروف أقل ما توصف بأنها مقلقة ؟ .. فأنا وحيدة .. تائهة ... عارية  !!
افلتت مني ضحكة ساخرة وتمتمت لنفسي : لو كان يريد هلاكي لفعل فلا مكان هنا لحذر سخيف .. تابعت ثرثرتي بصوت مسموع .. أحدث الرجل عما جرى .. ويجري .. وكم كنت أشعر بالفرح لوجود آدمي احادثه .. وكم كنت جوعانة .. و كم أنا تائهة ... وضائعة  ...  وكلما أغرقته حديثا .. ارتسم على محياه تعبير محيَر ... وكأنما يملك الكثير مما يقول ولكنه أبكم لا يستطيع الإفصاح ... كطفل تائه يعلم انه يريد العودة الى ذويه دون أن يعرف طريق الوصول ؟؟!

يئست من محاولة التواصل مع هذا الزائر ،تابعت سؤاله بصوت يائس مرتفع واشارات مفسرة : هل أنت أصم ؟؟  ... حسنا ربما تسمع ولكن هل تفهم لغتي ؟؟ .. هل انت أبكم ؟؟!!  ... من أنت ؟؟؟
لم يجب ... ولم أنتظر الإجابة ... بلغت من اليأس كل مبلغ ... هذا الملك لا يعرف أبجديتي وأنا سئمت الصمت !!
استمر الحال ... يختفي ملك الجبل ليعودني في زيارات صغيرة .. يقدم لي ثمار وفاكهة .. في الواقع لم يقدمها بل كان يتركها بجانب رأسي خلال نومي  ويرحل . ولم أعد أنطق كلماتي اليه ... اصبحت ترسم ملامحي بصمت ... أصبحت صباحاتي تبدأ بثماره وتنتهي بنظراته المطمئنة عن بعد .. وفي اوقات متفرقة كنا نلهو معا في مياه البركة الرائقة ... فأراه طفلا ... وأعود طفلة. 

أزيز نحلة !!

وحيد ... دائما
منبوذ في صحراء العزلة
لأني وحش الظلام المشوَه  ... معركة بعد معركة ... مجزرة بعد أخرى .. قذفتُ بالإنسانية خارج حدود عالمي ، سليل ميراث مديد من المحاربين القدماء .. يبحث عن معركته الأخيرة .. معركة موته المشرَف .. الموت الذي يليق به ! ... موت يهديني الى الفناء ولكنه يحفر اسمي بجانب محاربين سلالتي العظماء! ... فناء يفضي الى خلود !
ملعون بلعنة الظلام الأبدية... لعنة أغرت العديد من  القتلة بغرس وتد اثر اخر ... حتى لم يبق هناك مكان لوتد جديد في القلب ... تدافعني ألامي الجارفة وكآبتي المقيمة ... فاتخبط كمسوس ... وأتوارى في صحراء اليأس المجدبة من الأقمار ... وحش وحيد...  مخلوق موهوب لعتمة العذاب ونزيف الحسرة ... يعوي طريدا وحيدا إلى الأفق الخالي من الأقمار ... يتحداه ضجيج ثرثرة الصمت .. أيام تمضي سنوات ... سنوات تمضي عقود ... عقود تمضي قرون ... وأنا أستمر بالعواء... والنزيف ... أمضي في العيش على هامش الحياة .. شبح يقبع في الظلال ... يجمع قطعا فسيفسائية ليعيش قطعا منفصلة ... ملعون !!
بزغ من زاوية صحراء اللوعة  شفق بنفسجي شفيف ... نبه غرائزي الحادة ... شممت رائحة المعاناة تدعوني ... رائحة الوحدة واليأس .. أميزها بالرغم من خفوتها وضعفها ... جذبتني هذه الرائحة  واقتربت متسللا ... متخفياً ... مهارة اتقتنها بعد عقود من الاختفاء والاختباء ...  كلما أقتربت نمت الرائحة أقوى وأكثر تميزا ... طغى البنفسجي على كل شيء وتكثف .. السماء .. الأرض ... الهواء .. وكأنما خطوت الى عالم كامل من اللون النيلي !




غرائزي تنبأ بخطر داهم .. يتعاظم ويقترب .. رائحة معركة قريبة ...  وفيما ثار النيلي يزعق بالحياة والخطر ... تأهبتُ للعراك ...  فيما ظهرت ...  مخلوقة تحدق الى الهاوية ... بضجر ؟؟!! ... تخطو خطوات الفريسة بسخرية و ملل ... مزيًنة بالعديد من الجراح والندوب ... تلك العيون العسلية المغرقة بالحزن ... تلك الشفاه المرهقة ... تعلك تمتمة مهترئة لعويل عتيق من زمن العذاب والحسرة ...
فوق التل القريب مقابلها تجمعت ثلة من المخلوقات الكريهة ... تطوف وترول وتلعق اجسادها ممنية النفس بوليمة من اللحم الحي ... وربما زخرفة هذا الجسد بعدد إضافي من الجراح والندوب ... راقبتها تتابع تقدمها نحو الهلاك بخطوات سريعة حمقاء ... بدت وكأنها مستمتعة بالتوجه للخلاص .. بالتخلي عن الحياة .. والاستسلام للألم !!
برزتُ للمخلوقات الكريهة من خلفها محافظاً على اختفائي عن ناظريها ... لن أخيفها لتهرب بعيدا ... سأحافظ على مسافتي منها .. هذا المخلوق الجميل لن يحتمل شكلي المشوه الاسود ... أجفلت المخلوقات الكريهة لرؤيتي ولاذت بالفرار فورا !
تجمدت في مكانها كتمثال آلهة من آلهة الأساطير .. في لحظة التفتت تحدق إلي ... بنظرات ثابتة .. مستفسرة ... تقرأ كُنه هذا الوحش الأسود ... نطقت نظراتي اليها خبري  : أنا النهاية لوحدتك ... الطبيب الساحر القادم من عمق الزمن .. سأحررك من اللعنة وأبلغ  روحك الخلاص ...  اقتربتُ أكثر ... بقلب مضطرب .. اسمع صوتي يهمس لسمعي : تستحقين الحياة! !

 سيطر عليها الخوف وتمكن منها الاحباط فقادها تصرفها الأحمق لتركع أمامي ونظراتها تقول : خذ مني حصتك واتركني  ...  بعتب حزين عدت أدراجي الى حالتي الشبح  ...

 ولكن هذه المرة مع قمر يؤنس سمائي .