الاثنين، 30 يناير 2012

بلورة سحرية




ما كنت يوما من أصحاب الصمت ، ولا من أميرات غوايات العزلة ، أعشق التعبير الحر العفوي  وأحتفل بالعري والانكشاف .. لا أفهم من يحيط نفسه بهالة من الصمت والغموض ... ولا اراه إلا نوعا من ضيق الأفق ... من يحتمي بالصمت والعزلة يخيل إليه أننا نتشكل من طبقة واحدة ما أن نكشفها ونعريها حتى يتضح من نحن وما نحن فيؤثر الاحتماء بالصمت ...  ويغيب عنه أننا بهذا الانكشاف الأولي ما زلنا ننظف عتبة الدار من الأعشاب الوحشية  لنخطو الخطوة الأولي في الممر السحري المؤدي اليَ أو اليك....إن انكشاف الواجهة لا يفضي بالضرورة لسماع الصوت الداخلي فما بالك ونحن نحجب حتى هذه الواجهة ؟

أبعثر واجهتي الخاصة وأنثر فيها صدر بيت من الشعر هنا و ترنيمة من مقام موسيقي هناك ، وخليط مرتبك من الألوان يحمل عنفوان لوحة نشوانة،وفي الجانب البعيد تستقر منحوتة انثوية الانحناءات شبقة النداء،تستدرج اللمس الحنون لتصعق اللامس ببرودة الرخام الجامد... ونثر لا يسعف القارئ إلا بشهوة السبر والاكتشاف  ... دنيا من فوضى الاحتمالات المشرعة...فوضى مصممة بعناية ومنثورات متنوعة ... متناقضة... مبتورة ، تغري باستقصاء التلاحم والاكتمال ،تراود ذلك الساذج المسكون بأنانيته ليصطدم بجدر من البلور المصقول تعزله عن هذا العالم المسحور كلما هم باقتحامه.
 هو سيرك يضج بالحركة أحيانا والسكون المترقب الخاطف للأنفاس أخرى ، يطبق الصمت الثقيل أحيانا فيما يرتفع ضجيج من الأصوات الهادرة المختلطة بالقهقهة والعويل أخرى ،خليط مرتبك صاخب يبهرك ويعميك عن ذلك الزقاق الضيق المختبئ تحت ركام الفوضى التي نُسِجت لتحتويه في العمق اللا مرئي لرحم التكوين.  



أتوارى خلف المشهد - الواجهة وأتابع مرتاديها وزوارها بعيون خفية ، معظم المارين يلقي نظرة سريعة لا يتبعونها بأخرى ، فيما يتضخم فيهم الأنا وينتفخ صدره بخيلاء ديك يؤذن للفجر ، يصيح لنفسه بكل ما أوتي من قوة ... "أنا الصواب هي الخطأ  "أنا العمق – هي السطحية" " أنا التنظيم – هي الفوضى" .. " أنا الأصالة – هي التغريب" ، ويكفيهم هذا الانتصار المفاجئ السهل والآتي على عجل ليحثوا الخطى وينطلق كل الى شأنه الخاص مزهوا بنفسه دون أن يمنح ما رآه نظرة متفحصة تقلق نشوة  الانتصار الخفي للأنا المعبود ، فيما ينزلق كل منهم الى فخ البشرية العتيق ووهم خلط العفوية بالسطحية.





يتواصل تدفق الديوك المارة، لا شيء يستحق المتابعة ... يلوح وغد يتلكأ يقترب أكثر من الجدار البلوري ليدقق في المشهد دون اي اهتمام حقيقي ، تتنقل نظراته بين مكونات المكان المضطربة ، لا يحفل بها ... ويتابع في كسل حتى يرجع بصره بصورة المنحوتة الأنثوية ... تلتمع عيناه بالشبق المدفون ...يتحين فرصة خلوته بالواجهة فيحدق بتفاصيل المنحوتة ... فيما يتلمس الجدار البلوري علًه يجد طريقة لاقتحامه والتواصل مع تلك المنحوتة ... وعندما يعدم السبيل ، لا يجتهد في المحاولة ... انما يتلمس قضيبه ... يمارس الاستمناء ويرحل .

 سيدة مهندمة ينم مظهرها عن الحزم والتحفظ ... تستطلع ما ترى وباهتمام حقيقي .. تقترب أكثر من الواجهة  كالمجذوب ... مأخوذة ... تضمحل الجدران البلورية وتتحول لغلاف زئبقي يسمح للسيدة باجتيازه بيسر ... تخطو داخل المشهد بعفوية ... تنهمك السيدة في اقتطاف مفردات من النص النثري تنتقيها بعناية تلصقها متتابعة لتشكل عجز البيت الشعري ... وتعيد ترتيب مفردات النثر لتشكل جملا تفهمها ... تجتهد وتجتهد ... ترتب وتنمق ... تبدل وتستبدل ... تقف بوقفة شبه عسكرية ... تعاين باهتمام نتيجة الجهد الذي بذَلت ...  لا يعجبها ما ترى ... تخلط الحروف وتشرع بترتيبها من جديد ...





يهل  من الجانب الآخر رجل تنم هيئته عن اللامبالاة ... يلقي نظرة متفحصة شاملة ... ثم يمضي في طريقه ... يخطو بضع خطوات ثم يقفل راجعا ... يتفحص المشهد عدة مرات ... فيما يغير زاوية الرؤيا ويتحرك مقتربا ومبتعدا ... يبرز في مقلتيه اهتمام صادق ويخطو هو الاخر داخل المشهد من خلال البوابة الزئبقية ذاتها  ببعد موازٍ للسيدة ... يتحرك كل منهما في بعده الخاص لا يرى الآخر ولا يشعر به ... تنزلق كفه الى جيب داخلي في معطفه ... يستل منها ناي عتيق ... يمرر انامله عليه ... يتحسسه بشوق العاشق المكلوم ... يتخذ ركنا مجلسا ويحتضن نايه بأنامل الحنين ... يأخذه ما بين الشفتين وينفخ فيه من أنفاسه ليهديه الحياة ...تدب الحياة في أوصال الناي ... عاشق معشوق ... يفيق على مهل ... يفتح جفنيه على قبلات ترسم الشوق وشما على جسده الرقيق ...  ينطلق نغم شجي خافت... 
يلمع برق شديد يخترق البوابة الزئبقية  فيتقد المشهد ضوءً مبهرا يحيل المكان بأسره الى صفحة من اللجين اللامع ...  ينجلي المشهد عن شاب في أواخر عقده الثاني ... مرهق القسمات ... مغرق في الجدَية ... يباشر من فوره ويغمس ريشته في لجة الالوان المبعثرة ... يرسم عدد من اللوحات على التوازي ... يرسم بفيضان نهر هادر في لحظة اتحاده الكوني بالمحيط اللانهائي ... باهتمام وشغف مطلق ... يغيب عن الوجود ويخلق عوالمه ... يتحد بلوحاته فترسمه ...
في ذلك البعد الموازي بدأت السيدة ترتد الى داخلها وتلين حركات جسدها  ...رقصت حكايتها ... فبدأ النص يستقيم ليروي قصتها ... خيبة املها العظيمة وعمر ضاع مقابل خديعة شرعية... ترجمت خطوط تاريخها التي خطت عميقا في روحها أحرفا ومفردات... أخاديد الغدر التي حفرت بعيدا في الوجدان تتفجر كالبركان وتفيض حممه لاهثة حارقة متوهجة ... اخيرا امتلكت الوقت والمساحة لتسرد ما تريد كما تريد .. تقفز عبر الزمن .. فتسرد نهاية القصة .. وموقف من بدايتها .. وقد ينزف موقف الخيانة فيفرض نفسه ...
تجلت روح اللوحات... أخذت تتطاير مسكونة واحدة تلو الأخرى .... تنتصب في الافق معلقة في الهواء ... أطلت منها وجوه ثكلى وعيون تنضح بالفجيعة والفقد ... ملامح تبوح بغصة الأسى وكمد اللهفة...  تحتضن الشهيد ... أم ... حبيبة ... والد ...صديق ... او رفيق ... شهداء ... شهداء ...  شهيد في لحظة الوداع ... آخر أسلم الروح لبارئها لتوه ... ثالث يرقد في درج المشرحة ينحني والده ليقبل قدمه الباردة في رقاده المهيب ... جريح يحمل شهيد ... حرة ترقد على الاسفلت شبه عارية يدوسها أوباش في غلٍ وتشفٍ ... وفي كل منها حضور لبزة عسكرية ... وجوه كالحة  ... تنطق البطش والقهر ...

تصاعد اللحن الموجوع الآتي من رحم الناي العتيق ... يحمل شجن كونيً مسافر ... تسلل عبر الأبعاد ...عانق النص و احتضن اللوحات ....فانتفض ذلك حسرة ونزفت تلك اللوعة ... تزاوج اللحن مع كل ما تخلله فالقى في المحيط بذرة الحياة ... انقلب النص قلبا نابضا ينزف دماءً حارة ...وتحركت الشخوص في اللوحات فتدفق دم الشهيد مخضوضرا حيا تَمطُره اللوحات غيثاً...فيما تسربت الدماء الى حروف النص فلونتها وفاضت قطرات لم تلبث إلا ان اصبحت سيلا جاريا من دماء ... كسرت الدماء تمايز الابعاد فانحدرت تجذب احداها الاخرى كقطبي مغناطيس ... تعانقت وتلاشى الفارق ما بين العام والخاص ... توحد الوجع ففاض !
فاض الوجع عن طاقة الاحتمال البشري ... انقطع اللحن فجأة وسرى الصمت ... انطلق من حنجرة الشاب صراخ لا نهائي مجروح ... صوت فوق آدمي ... يتلون ما بين صوت تكسر حاجز البرزخ يلطمه جناح ملاك شديد ليتحول الى عواء ذئب شريد يناجي ظله...... انهار الفتى جسدا خائرا فيما تخافت صوت صرخته لينتهي نشيجا متواصلا مكتوما... قفزت السيدة من بُعدها الخاص تتعمد بدمعها ... توجهت نحو الشاب وأكبت تحتضن جسده المتكور جنينا ليختلط صوت بكائهما معا ... 
عاد العزف حنونا رقيقا ... وارتسمت أحرف النوته الموسيقية ممرا يقود الى الزقاق – البوابة الذي أصبح مضيئا وهَاجا ... انتبه الباكيان وانتصبا واقفين ... كفكفا الدمع وامتشقا التحدي .... بزغ الأمل فجرا بدد الضباب في أحداقهما ... تبعا أحرف النغم يرافقهما عازف الناي العتيق ... تسرب النغم الى العالم المسحور فيما وقف ثلاثتهم على عتبة الزقاق... تأهب الشاب للولوج ونظر الى العازف ان اسبقني فأشار العازف في حركة موحية الى رسغه أنه على موعد مرتقب في مكان آخر .... اجتاز الشاب والسيدة العتبة الى الداخل يرافقهما ذات النغم فيما تابعهما العازف بنظراته حتى تلاشى ظلهما ... رد الناي الى جيبه وقفز عبر البوابة الزئبقية خارج الواجهة ... رمق جدر البلور تتشكل مرة اخرى ... أطرق برأسه قليلا ... واجه الواجهة ... طبع قبلة على كف اليد وأطلقها في الهواء ... فيما انطلق نحو موعده اللاحق.
.
.
.
.

وأنا ..... وقفت أرحب بالوافدَين الجديدين بابتسامة ....