الخميس، 19 يوليو 2012

اللقيا في زمن التيه (1)



تشقيني هذه الروح الغجرية منذ البدء ... بائت كل محاولاتي لتدجينها أدراج الرياح ... تستسلم وتأنس سنين حتى أطمئن لسكونها وانشغل عنها باليومي الروتيني ... وأركن لثباتها ...  وفي غفلة من الوعي ينطلق زلزال الصهيل ويجتاحني جموحها العاصف فيملكني ... وأهمس لنفسي ثارت هذه الحمقاء من جديد تحملني هادرة ولا أدري اين ستلقيني وفي أي الأصقاع .. قضيت عمرا أوقاوم عبثا شططها ... ولا مناص !


لا شيء يطفأ ظمأ الروح ... وهذا الضباب المقيم منذ عصور لا يثني التَوقٌ الهادر ... أتوه.... فلا أنا أعتاد الضباب واستسلم لتخبطي ... ولا يعتقني هذا التوق الممسك  بزمامي .... اتحسس خطواتي نحو الأفق المفتوح ... في رحلة التيه المتجدد ..  بحث لا نهائي ... عن شيء ما ... شخص ما ...  أيمم نحو المجهول ...  يرتسم السراب فيعييني الترحال وأتلمس ذاك الشقي القابع داخلي بأنامل المواساة ... لا أدري يا صاحبي ما الذي تواطأت السنون على نسجه لنا هذه المرة في هذه البقاع الموحشة.

تتعفر خطواتي المنهكة برمل البيداء ... وتشربني الشمس الحارقة رغم الضباب المقيم... وأشرب أخر قطرة ماء من قربتي ... بلا سابق إنذاريتخذ جسدي وضعية التأهب... وتسري كهرباء تشحن جزيئات الفضاء حولي فينجرف الهواء ثقيلا... اشعر بشهوة المفترس ترقبني وتحاصرني ... أجول بعيني بتوجس المقدم على الهلاك فلا يلوح لي مخلوق ... يخرج الزفير من صدري حريقا واناجي ذاتي : لا يوجد أقسى من انتظار الأسوء ...


وها هو الأسوأ يفسرذاته  فيلوح لي قطيع من الضباع  الجائعة على قمة كثيَب رملي قريب... أراها عبر الضباب تتآلف فيما بينها وتنطلق نحوي أجرجر خطواتي كما يساق محكوم بالإعدام الى حتفه .. سحقاً لهذه الميتة السخيفة ... فلا أحقر من هذه الكائنات ... أفيكون قاتلي حقيرا جبانا عفنا لهذه الدرجة... وأهرول نحو موتي حثيثا وأحدق النظر بأنفة في وجه قطيع الجبناء ان كان الهلاك قبلتي فليأتِ على عجل ... فالصبر فضيلة لا أمتلكها  !!... يجفل قطيع الجبناء ويرتبك التشكيل فجأة ... ينطلق منها زعيق مقرف .. ولا تلبث إلا ان تنطلق هاربة بسرعة البرق كمن مسه صاعق ؟؟!!



تجمدت خطواتي وتسمرت في مكاني ... أحاول تبين ما جرى ؟؟؟! ... ما لهؤلاء الجبناء ؟  تباً ...أنا لا أفهم قوانين الصحراء !! .... أزعجني ثقل وتلاحق انفاسي تصم اذني ... حبست أنفاسي لتنتظم ... لم يتوقف صوت تلاحق الأنفاس .. قريبا ... دافئا ... التَفتُ ناحية الصوت ... يجتاحني الترقب ... التمعت نيران متوقدة ترمقني عن قرب ... برز من الضباب فيما يشبه الحلم ... وحش مهيب مغرق السواد ... يحمل النار المقدسة تلتمع في مقلتيه... أركع مقابل الوحش الملك .. أستند على أربعتي ... أواجه الكائن المغرق في الجمال وأحدق في قسمات وجهه  .... مرحى لك ايها الملك المهيب ...هذا موتي المشرف ... التهمني يا رفيق ... فهكذا تكون النهاية المشرفة بحق .. يا ماحق الجبناء ... يا ملك الصحراء ... أنحني لإجلالك العظيم ... اطبق جفنيَ باستسلام ... مرحبة بموتي المشتهى .. تلفحني أنفاس حرَى ... ويصطدم أنف رطب بأنفي وأشهق نفسي الأخير ... وأنتظر ... وأنتظر ... يجتاحني السكون ... لا افتراس ... ولا أنفاس ... افتح عيني لألمح الفهد المهيب يلقي إلي نظرته الأخيرة في عتاب لم أفهمه وينطلق غائبا في الضباب !




تابعت سعي هاجر .. ولا زمزم ... ولا قوافل ... ذبحني العطش ... ونسجت لي الشمس الحارقة كل انواع الهذيان ... ...  تنبلج في قلب صحرائي شواطيء غريبة .... مسحورة ... تلطم أمواجها صخر الشاطيء بشهوة أنثى تعانق عشيقها الغائب منذ الأزل ...تستهويني لحظة العناق ... لحظة اللقاء ... فأنضو أسمالي عن جسدي الذي انهكته الشمس التهابا ... وأنطلق عارية نحو الأمواج تدفعني الريح على مهل ... أحاذي صخر الشاطيء بحذر ... وانزلق ما بين الصخور كسمكة حفظت هذه الشعاب المرجانية عن ظهر قلب... تحملني الأمواج الرائقة لبقعة زرقاء  خالية من الصخور التي تحيطها كخاتم  .. متلالئة المياه.. صافية  .. ترسم جسدي العاري لوحة شفافة ... وأغوص الى الأعماق ... تغمر المياه الباردة الجسد العطشان ... وتحتويه كرحم على أهبة الاخصاب ... حنونا ... محبا ... غامرا .. اشق المياه لأشاكس الموج الحنون على السطح ..




يا إلهي !!! أسوء كوابيسي تتحقق !!! يهاجمني هذا الكائن الكريه اللزج ! ... كائن قنديل البحر المقرف يحاصرني !! تتملكني نوبة رعب .. وصراخي يبلغ عنان السماء ... أحاول جهدي ان أبعد هذا الكائن اللزج عني بخلق امواج تحمله بعيدا.. ويأبى هذا اللزج الا مهاجمتي بشراسة !!! ... أتخبط مرارا ... وأشعر بمن يدفعني بعيدا نحو الشاطيء ... فيما تنطلق صرخاتي المجنونة رعبا ... لأتبين الوحش الاسود يلتف حولي ليشكل بجسده حاجزا يحميني من اللزج حينا ومن الصخور المتناثرة حولي أخرى ... فيما يدفعني برفق الى الممر الآمن وسط الصخور حتى بلغنا الشاطيء معا!!

ألقيت جسدي خائرا مرتجفا على رمل الشاطيء ... وجثا بجانبي الوحش النبيل ينزف من أثار جروح صخور الشاطيء ... فيما بين الإغماء والصحو مددت كفي لاتحسس الجسد النازف ... ولم يسعفني الوقت لأنطق بكلمة عرفان ... فيما انزلقتُ في هوة الغياب ...




إغفاءة أو إغماءة ... يلوح لي وجه الوحش النبيل ... احاول لمسه كالشعاع ... فيقترب ويبتعد ... ويأتيني صوت بعيد قريب يهمس ... كم عمرا لبثتِ ؟! ... أما آن لهذا الشقي أن يترجل عن صليب الانتظار المغروس في عمق الزمان !... أما غفر لي شغفي العتيق وقلقي المقيم في بحثي الموصول عنكِ منذ أجيال ؟؟ ... وانت يا أميرتي الغجرية تزدادين بعدا وحزنا كلما اقتربت منك ... لكن أنينك ... آه لهذا الانين المسافر في دوائر الزمان .. كان يتزاحم كموج يغشاني ... يخترقني !
تداخلت الحروف ... تصاعدت همهمهات بعيدة ... صوت حنون مبهم المعاني ... يتلاشى رويدا ... رويدا ... يسلمني لوسن مخملي .

  

شهقة
 إفاقة توارب الباب لعالم الصحو ... لمحة من الضياء ... أرمش مرة .. فمرات ... بقايا ضباب يتلاشى ... ينحني ليقبل أرنبة أنفي ... ويرسل نسيما  يلتقم حلماتي فتنتصب للرضاع ... انتشي بمداعبة النسيم وأمسد على شعري واخلله أصابعي ... لا عطش ولا ظمأ ... جسد ريَان ... وروح حريرية تتمطى بغنج .
تحسست كفاي أرضي وتوكأتُ على مهل ... لملمتُ جسدي العاري وجلست القرفصاء اعاين مكاني بشرودي وصمتي  ... أرقب جبل أسود يحتضنني ... ترتفع ذراعاه شاهقتين بصخر اسود مصقول ... يظلل المكان فيحميه من الهجير ، بينما يستعير له من الشمس الضياء ...



فيما راق الجو وانقشع الضباب تماما ، مددتُ قامتي وانا احتضن نهديَ واقوس ظهري  لتنزلق كفاي تتحسس جسدي كقطة تلعق جسدها ... لأرد رأسي الى الخلف وانفض شعري الفوضوي كما يجفف عصفور ريشه ... أطلقت صرخة فرح وجنون .. كتلك التي يطلقها الهنود الحمر مزقت أحشاء الفضاء وانطلقتُ في رقصة وحشية عجيبة ،لا أدري هل هي احتفال ببقائي على قيد الحياة أم طقس من طقوس وجودي أضحية على مذبح الفناء ... رفعت رأسي عاليا وأنا املأ صدري بالهواء لصرخة ختام الرقصة وإذا بالوحش المهيب يجثم على قمة الجبل ... يراقب خطواتي الحمقاء ويشرب تفاصيل المشهد بهدوء محيًر !




تعلقت نظراتي بهذا النبيل الذي لا يبقى ولا يمضي ... يهمين على الأجواء ولا يفرض الحضور ... يبرز كتعويذة وربما يكون هو الطلسم ..... تتابع شرودي في هذا السيق الممتد... يفلق الجبل الى نصفين كأنه صنعة حزمة بروق كونية خرت متتابعة تضرب الجبل فكأنما شُق بنصل سكين ... تملكني يقين ان على امتداد هذا السيق تتضح الإجابة ... أو ...قد يتبلور السؤال ؟!
رفعت صوتي فيما يشبه الصلاة :
"أقف على عتبة الباب ... أربي الأمل ..   تعال نلملم اقدامنا .. تعال نراقص خطواتنا ... نسير نحو التئام الجرح .. نهدهد الممكن ونراود المستحيل "
تتابعت تكرار هذه الكلمات على لساني وكأنها ترانيم عتيقة صليتها في أزمان غابرة... ترافقت خطواتي معها على اتساق ..  أرفع الخطوة فينبت تحتها عشبا ... أخطو أخرى فتنبت زهرا  .. يرتسم اللون الأخضر أثرا يشكل مساري .. وترتفع أرض المنحدر شيئا فشيئا وينبت العشب في مفاصل الصخر وتفترش تحت خطواتي سجادة الخصب.
تابعت اختراق قلب الجبل وبدأ لون ترابي ضارب الى الحمرة يغزو اللون الأسود ...  تموجات اللونين بديعة  ... اقتربتُ أكثر اتحسس الصخر المصقول ... يسلبني اليه فأتوحد في كيونته ... اتابع تحسس الجدران الصخرية وأقرأها بكفيَ ... فتنتفي باقي الحواس وتندمح في اللمس ... يتراجع البصر ويقرأ اللمس حكايات وحكايات ... نقوش مرسومة  لصراع بين وحوش قديمة .. دماء مسفوحة ... وجراح ... انكسارات وانتصارات . تتنوع النقوش وتتلاحق...تروي ملاحم المحاربين قدماء ... يصارعون الوحوش والبرابرة الأعداء... قتلى وحراب ... صراع أزلي متجدد...





يتوالى ظهور رسم الفارس الناجي من المعارك ... تلمتع في وجهه المثخن بالجراح  عينان وحشيتان ... نافذتان يقترن فيهما الجبروت بالفجيعة ... محرابان يتوجان معركة تقديس اله الحرب  الموت !  .. يتبختر الفارس مزهوا بجراح المعركة...  ويكابر ... يكابر ... فيما يختفي قلبه تحت طعنات خناجر نافذة ... لا يرى منها الا مقابضها وتغيب الأنصال في قلب القلب ... وجراح تنز ! ... يحمل الفارس بشماله رأساً قطفها خلال معركته تشخر دما ...تناديني العينان ... أحدق ... اكثر ... اكثر .. تكبر ملامح الوجه للمقتول وتتضح .... يطل وجه الفارس من الرأس المعلق بيده يرنو إلي ... وتتنهد الريح همهمات الثكالى : هو القاتل ... هو المقتول !



رعدة تهزني ... يجتاحني الجليد ... صقيع ... اقاوم الجليد ... اتحرك بضعة خطوات ... احاول جهدي الابتعاد ... تتثاقل أرجلي ويكبلها الجليد ... ويتسلقني التجمد حتى أتحول لتمثال من جليد ... يقتلني الزمهرير ... ويحبسني التمثال الجليدي عاجزة عن الحركة داخله ... يتناقص الهواء ... وأنزلق نحو غيبوبة الاختناق ... وتحدق مقلتاي في الجدار الصخري امامي ... فيما أجاهد لأتنفس ... اختلط لون أصفر وبدأت سيمفونية الألوان تتسع .. مشعة .. مبهرة ..  أرى في النقش ... وجه إمرأة متكرر ... يتضح ... اغرورقت عينا المرأة- النقش بالدموع الحارة ... انسابت على وجه الجدار الصخري وانسحبت الى أسفل ... لتمتد الى قاعدة التمثال الجليدي الذي يحبسني ... فتشقق ... دمعة  اخرى ... اخرى ... الجليد يذوب واتحرر !


تعلو ذات الترنيمة :
"أقف على عتبة الباب ... أربي الأمل ..   تعال نلملم اقدامنا .. تعال نراقص خطواتنا ... نسير نحو التئام الجرح .. نهدهد الممكن ونراود المستحيل "

هناك تعليقان (2):

معنى الحب يقول...

لهثت معكِ في مجابهة هؤلاء الوحوش بدءا من الوحش الساكن والكامن بالنفس..عثرت عليَّ مواجهته فانتقلت معكِ إنتقالا سلسا لا أعرف كيف؟؟! إنها العبقرية في السرد وهكذا واحدا تلو الآخر..وبينما كنتِ تقولين لا يوجد أقسى من إنتظار الأسوأ..كنت أتوقع الأجمل والأهنأ والأهدأ..وصدق حدسي وأخذت عيني أوضاعا مختلفة تواءم هؤلاء الضواري..وفوجئت مثلك تماما بالأنف الرطب..وأخيرا تمنيت أن أهدهد الممكن وأراود المستحيل..حقيقة سعدت وأنا أتابع هذا المشهد الحي المتخم بالمشاعر الجياشة والمهذبة أمام التوحش وشهوة التنمر والأرتواء..الأسلوب عذب وراقي والصور دامغة ومحققة ..وجبة دسمة أشبعتني وأروت ظمأي..أشكرك

ما بعد التميز والتماهي يقول...

العزيز ايميل ... كلماتك جعلتني اعجب بالنص واالتقي بأخرى لم اكن اراها .. ان تأتِ هذه الكلمات من شاعر مرهف في مثل قدرك هو بهجة لروحي